سرية التحقيق الابتدائي بين مقتضيات المصلحة العامة ومتطلبات الحق في المعرفة
دراسة مقارنة في القانون والواقع المصري والفرنسي
نقدية لأحكام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان
الدكتور/ بشير سعد زغلول رجب
أستاذ القانون الجنائي
كلية الحقوق – جامعة القاهرة
تُعد العدالة الجنائية إحدى دعائم دولة القانون وإحدى مقومات استقرار المجتمع وسكينته بل وتنميته. وإذا كانت إقامة العدالة الجنائية في أي مجتمع تستوجب تبني تشريعات منضبطة من حيث الصياغة والمضمون، فإن تطبيق هذه التشريعات بفاعلية وحسم على الجميع يمثل الجانب العملي في هذا البناء الذي تبدأ أولى خطواته القضائية بالتحقيق الجنائي من خلال دعوى جنائية تستهدف البحث عن حقيقة الجريمة المُرتكبة لمعرفة مرتكبيها وجمع أدلة اتهامهم ثم إحالتهم إلى قضاء الحكم ليفصل في هذه الدعوى إما ببراءتهم وإما بإدانتهم وإنزال العقوبة المقررة قانونا عليهم اقتضاء لحق المجتمع الذي أخلَّت بسكينته الجريمة.
وتختلف مهمة التحقيق الابتدائي عن مهمة قضاء الحكم، فالتحقيق يأتي في مرحلة مبكرة تبدأ عقب ارتكاب الجريمة وقد تكون المعلومات المتوافرة عن الواقعة قليلة، سواء من حيث الدلائل المتوفرة ضد مرتكبيها أو من حيث تحديد هوية أشخاص مرتكبيها. فضلا عن أن الأمر قد لا يعدو في بعض الحالات أن يتجاوز مرحلة الشبهات التي لا ترقى لتوجيه اتهامات. بينما تأتي مرحلة المحاكمة وقد قويت الدلائل وصارت أدلة وتحددت هوية مرتكبي الجريمة. وعلى هذا الأساس تجري إجراءات التحقيق الابتدائي في سرية بالنسبة للجمهور، وهي سرية تفرضها متطلبات إقامة العدالة الجنائية بالكشف عن الحقيقة. بينما تخضع إجراءات المحاكمة لمبدأ العلانية الذي يتيح للجمهور معرفة تفاصيل الدعوى، وهذه العلانية تفرضها كذلك متطلبات إقامة العدالة الجنائية بتدعيم ثقة الجمهور فيما يصدر من أحكام قضائية، سواء أكانت بإدانة المتهم أم ببراءته.
واستنادا لهذا الاختلاف في طبيعة وهدف كل من إجراءات التحقيق الابتدائي والمحاكمة، أوجب القانون علانية إجراءات المحاكمة بإتاحة الفرصة أمام الجمهور لمعرفة ما يدور في قاعات المحاكم من إجراءات ليقف على ما توفره المحكمة من ضمانات تكفل محاكمة عادلة للمتهم، وما يستتبع ذلك من إمكانية نشر إجراءات المحاكمة عن طريق وسائل الإعلام المختلفة؛ كما فرض، ذات القانون نطاقا من السرية على إجراءات التحقيق الابتدائي لتوفير بيئة مناسبة لسير هذه الإجراءات. فالفارق بين السرية والعلانية فارق زماني تفرضه طبيعة الإجراءات القضائية ووظيفتها أو دورها في الدعوى الجنائية.
لكن الواقع المعاصر يشهد اهتماما ملحوظا ومتصاعدا من قبل الصحافة ووسائل الاعلام على اختلاف أنواعها بالتحقيقات الجنائية، ليس فقط بشأن القضايا التي يمكن أن تشغل اهتمام غالبية المواطنين، أو ما يُطلق عليها قضايا الرأي العام، بل أيضا بشأن غيرها من القضايا التي لا تثير اهتمام المجتمع، فأصبحت أخبار التحقيقات الجنائية تشغل مساحات زمنية واسعة في وسائل الإعلام. وقد ساعد على ذلك ما تشهده الصحافة ووسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي من تقدم تقني هائل ومتسارع أسهم في تغيير معطيات الإشكالية المتصلة بالسرية والعلانية من خلال تغيير أسلوب الصحافة ووسائل الإعلام في التعاطي مع المعلومات والأخبار المتعلقة بالقضايا الجنائية الجاري تحقيقها، وتبعا لذلك أصبح شغف الجمهور بإشباع حقه في المعرفة متزايدا.
ومما لا شك فيه أن دور الصحافة ووسائل الإعلام فيما تقوم به من تسليط الضوء على بعض القضايا الكبرى، كالفساد في مجال الحكم والسياسة، قد يحول دون مباشرة أي تأثير سياسي سلبي على سير التحقيقات المتعلقة بهذه القضايا، فيمنع وقف إجراءاتها أو تعليقها وجعلها رهينة الأدراج. إلا أن التعرض لتفاصيل ملف التحقيق الابتدائي وإجراءاته وما يحتويه من اتهامات أو أدلة، فضلا عن إجراء تحقيقات صحفية موازية، يؤثر سلبا على مصلحة التحقيق وحسن سيره وقد يعرقل الوصول للحقيقة، وهو ما يؤثر سلبا على إقامة العدالة الجنائية. وقد يستطيل الأمر إلى تعامل الصحافة ووسائل الإعلام مع المتهم على أنه مدان بالفعل رغم عدم صدور حكم بإدانته، بل رغم عدم تقديمه للمحاكمة بعد، ثم تُذكر عبارة أن المتهم برئ حتى تثبت إدانته في سياق عابر يخلو من أي مضمون.
هذا الواقع يثير بحق تساؤلا جوهريا حول ما إذا كان ملف التحقيق الابتدائي وإجراءاته لا تزال تحظى من الناحية الواقعية بالسرية في مواجهة الجمهور؛ وما إذا كانت القواعد القانونية التي تقرر هذه السرية لا تزال تحظى بالاحترام الواجب لها من قِبل الصحافة ووسائل الإعلام، بل ومن قِبل الأشخاص المخاطبين بالمحافظة عليها وعدم إفشائها. وهذا التساؤل يثير تساؤلا آخر حول مدى إمكانية تبني قواعد تحكم العلاقة بين القضاء الجنائي في مرحلة التحقيق الابتدائي وبين الصحافة ووسائل الإعلام برسم حدود واضحة تضمن عدم الإخلال بمقتضيات ممارسة العمل القضائي وتلبي متطلبات ممارسة العمل الصحفي أو الإعلامي، بحيث تكفل هذه القواعد المواءمة بين فاعلية إجراءات التحقيق الابتدائي في الوصول للحقيقة وبين حق الجمهور في المعرفة.
وقد يبدو أن الوصول لنقطة توازن بين الأمرين، أو بمعنى أدق أن وضع حدود واضحة للحق في المعرفة أمرا صعبا، خاصة فيما يتعلق ببعض القضايا التي تشغل اهتمام غالبية أفراد الشعب، كقضايا الفساد المتهم فيها سياسيون أو مسؤولون، أو القضايا الجسيمة في آثارها وأضرارها.
ومن خلال هذه الدراسة سنحاول إيجاد نوع من التوازن أو المواءمة بين مقتضيات ممارسة القضاء الجنائي مهمته خلال مرحلة التحقيق الابتدائي وبين متطلبات ممارسة العمل الصحفي أو الإعلامي، توازنا يضمن الحد من نشر أخبار التحقيقات الابتدائية بما يضر بمصلحة التحقيق وحسن سر إجراءاته، ويسمح في الوقت ذاته بتلبية رغبة الجمهور في المعرفة بشأن القضايا الهامة.
السعر :
28.57
USD